الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ: لَا تُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَا لَمْ أُحَرِّمْهُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ منَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، بَلْ كُلُوا ذَلِكَ، فَإِنِّي لَمْ أُحَرِّمْ عَلَيْكُمْ غَيْرَ الْمَيِّتَةِ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِي. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ}، مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْمَيْتَةَ. " وَإِنَّمَا ": حَرْفٌ وَاحِدٌ، وَلِذَلِكَ نُصِبَتِ {الْمَيِّتَةُ وَالدَّمُ}، وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي " الْمِيتَةِ " إِذَا جُعِلَتْ " إِنَّمَا " حَرْفًا وَاحِدًا- إِلَّا النَّصْبُ. وَلَوْ كَانَتْ " إِنَّمَا " حَرْفَيْنِ، وَكَانَتْ مُنْفَصِلَةً مِنْ " إِنَّ"، لَكَانَتِ " الْمَيِّتَةُ " مَرْفُوعَةً وَمَا بَعْدَهَا. وَكَانَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَطَاعِمِ الْمَيِّتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ، لَا غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. وَلَسْتُ لِلْقِرَاءَةِ بِهِ مُسْتَجِيزًا وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي التَّأْوِيلِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَجْهٌ مَفْهُومٌ- لِاتِّفَاقِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَى خِلَافِهِ. فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِمْ فِيمَا نَقَلُوهُ مُجْمِعِينَ عَلَيْهِ. وَلَوْ قُرِئَ فِي " حُرِّمَ " بِضَمِّ الْحَاءِ مِنْ " حَرَّمَ"، لَكَانَ فِي " الْمِيتَةِ " وَجْهَانِ مِنَ الرَّفْعِ. أَحَدُهُمَا: مِنْ أَنَّ الْفَاعِلَ غَيْرُ مُسَمًّى، " وَإِنَّمَا " حَرْفٌ وَاحِدٌ. وَالْآخَرُ: " إِنَّ " وَ " مَا " فِي مَعْنَى حَرْفَيْنِ، وَ " حُرِّمَ " مِنْ صِلَةِ " مَا"، " وَالْمِيتَةُ " خَبَرُ " الَّذِي " مَرْفُوعٌ عَلَى الْخَبَرِ. وَلَسْتُ، وَإِنْ كَانَ لِذَلِكَ أَيْضًا وَجْهٌ، مُسْتَجِيزًا لِلْقِرَاءَةِ بِهِ، لِمَا ذَكَرْتُ. وَأَمَّا " الْمَيِّتَةُ"، فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ مُخْتَلِفَةٌ فِي قِرَاءَتِهَا. فَقَرَأَهَا بَعْضُهُمْ بِالتَّخْفِيفِ، وَمَعْنَاهُ فِيهَا التَّشْدِيدُ، وَلَكِنَّهُ يُخَفِّفُهَا كَمَا يُخَفِّفُ الْقَائِلُونَ فِي: " هُوَ هَيِّنٌ لَيِّنٌ " " الْهَيْنُ اللَّيْنُ"، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ *** إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فِي مَعْنَى وَاحِدٍ. وَقَرَأَهَا بَعْضُهُمْ بِالتَّشْدِيدِ، وَحَمَلُوهَا عَلَى الْأَصْلِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هُوَ " مَيْوِتٌ"، " فَيْعِلٌ"، مِنَ الْمَوْتِ. وَلَكِنَّ " الْيَاءَ " السَّاكِنَةَ وَ " الْوَاوَ " الْمُتَحَرِّكَةَ لِمَا اجْتَمَعَتَا، " وَالْيَاءُ " مَعَ سُكُونِهَا مُتَقَدِّمَةٌ، قُلِبَتِ " الْوَاوُ " " يَاءً " وَشُدِّدَتْ، فَصَارَتَا " يَاءً " مُشَدَّدَةً، كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي " سَيِّدٍ وَجَيِّدٍ ". قَالُوا: وَمَنْ خَفَّفَهَا، فَإِنَّمَا طَلَبَ الْخِفَّةَ. وَالْقِرَاءَةُ بِهَا عَلَى أَصْلِهَا الَّذِي هُوَ أَصْلُهَا أُولَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ التَّخْفِيفَ وَالتَّشْدِيدَ فِي " يَاءِ " " الْمَيِّتَةِ " لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فِي الْقِرَاءَةِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَبِأَيِّهِمَا قَرَأَ ذَلِكَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. لِأَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِي مَعْنَيَيْهِمَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: وَمَا ذُبِحَ لِلْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ يُسَمَّى عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، أَوْ قُصِدَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْأَصْنَامِ. وَإِنَّمَا قِيلَ: " وَمَا أُهِلَّ بِهِ"، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَرَادُوا ذَبْحَ مَا قَرَّبُوهُ لِآلِهَتِهِمْ، سَمَّوُا اسْمَ آلِهَتِهِمُ الَّتِي قَرَّبُوا ذَلِكَ لَهَا، وَجَهَرُوا بِذَلِكَ أَصْوَاتَهُمْ، فَجَرَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى قِيلَ لِكُلِّ ذَابِحٍ، سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ، جَهْرَ بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ لَمْ يَجْهَرْ-: " مُهِلٌّ ". فَرَفْعُهُمْ أَصْوَاتَهُمْ بِذَلِكَ هُوَ " الْإِهْلَالُ " الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}. وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْمُلَبِّي فِي حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ " مُهِلٌّ"، لِرَفْعِهِ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ. وَمِنْهُ " اسْتِهْلَالُ " الصَّبِيِّ، إِذَا صَاحَ عِنْدَ سُقُوطِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، " وَاسْتِهْلَالُ " الْمَطَرِ، وَهُوَ صَوْتُ وُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ قَمِيئَةَ: ظَلَمَ الْبِطَاحَ لَهُ انْهِلَالُ حَرِيصَةٍ *** فَصَفَا النِّطَافُ لَهُ بُعَيْدَ الْمُقْلَعِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}، مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} قَالَ: مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} قَالَ: مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِمَّا لَمَّ يُسَمَّ عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}، مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} قَالَ: مَا أُهِلَّ بِهِ لِلطَّوَاغِيتِ. حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضِّحَاكِ قَالَ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} قَالَ: مَا أَهَّلَ بِهِ لِلطَّوَاغِيتِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِِ عَبَّاسٍ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}، يَعْنِي: مَا أُهِلَّ لِلطَّوَاغِيتِ كُلِّهَا. يَعْنِي: مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، غَيْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} قَالَ: هُوَ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: مَا ذِكْرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلَهُ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}، يَقُولُ: مَا ذِكْرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ- وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}- قَالَ: مَا يَذْبَحُ لِآلِهَتِهِمُ، الْأَنْصَابُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا أَوْ يُسَمُّونَ أَسْمَاءَهَا عَلَيْهَا. قَالَ: يَقُولُونَ: " بِاسْمِ فُلَانٍ"، كَمَا تَقُولُ أَنْتَ: " بِاسْمِ اللَّهِ " قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَيْوَةُ عَنْ عَقَبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ التُّجِيبِيِّ وَقَيْسِ بْنِ رَافِعٍ الْأَشْجَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا أَحِلُّ لَنَا مَا ذُبِحَ لِعِيدِ الْكَنَائِسِ، وَمَا أَهْدِيَ لَهَا مِنْ خُبْزٍ أَوْ لَحْمٍ، فَإِنَّمَا هُوَ طَعَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ حَيْوَةُ، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}؟ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ الْمَجُوسُ وَأَهْلُ الْأَوْثَانِ وَالْمُشْرِكُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ}، فَمَنْ حَلَّتْ بِهِ ضَرُورَةُ مَجَاعَةٍ إِلَى مَا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمِيتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أَهَّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ- وَهُوَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفْنَا- فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهِ إِنْ أَكَلَهُ. وَقَوْلُهُ: فَمَنِ " اضْطُرَّ " " افْتُعِلَ " مِنَ " الضَّرُورَةِ ". وَ " غَيْرَ بَاغٍ " نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ " مَنْ"، فَكَأَنَّهُ. قِيلَ: فَمَنِ اضْطُرَّ لَا بَاغِيًا وَلَا عَادِيًا فَأَكَلَهُ، فَهُوَ لَهُ حَلَالٌ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " فَمَنِ اضْطُرَّ"، فَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِهِ فَأَكَلَهُ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَهْوَازِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قَالَ: الرَّجُلُ يَأْخُذُهُ الْعَدُوُّ فَيَدْعُونَهُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ مُخْتَلِفُونَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: " غَيْرَ بَاغٍ"، غَيْرَ خَارِجٍ عَلَى الْأَئِمَّةِ بِسَيْفِهِ بَاغِيًا عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ جَوْرٍ، وَلَا عَادِيًا عَلَيْهِمْ بِحَرْبٍ وَعُدْوَانٍ، فَمُفْسِدٌ عَلَيْهِمُ السَّبِيلَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعَتْ لَيْثً عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قَالَ: غَيْرَ قَاطِعِ سَبِيلٍ، وَلَا مَفَارِقِ جَمَاعَةٍ، وَلَا خَارِجٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَلَهُ الرُّخْصَةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}، يَقُولُ: لَا قَاطِعًا لِلسَّبِيلِ، وَلَا مُفَارِقًا لِلْأَئِمَّةِ، وَلَا خَارِجًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَلَهُ الرُّخْصَةُ. وَمَنْ خَرَجَ بَاغِيًا أَوْ عَادِيًا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَلَا رُخْصَةَ لَهُ وَإِنِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ. حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ سَعِيدٍ: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قَالَ: هُوَ الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، فَلَيْسَ لَهُ رُخْصَةٌ إِذَا جَاعَ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيِّتَةَ، وَإِذَا عَطِشَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ شَرِيكٍ عَنْ سَالِمٍ- يَعْنِي الْأَفْطَسَ- عَنْ سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قَالَ: الْبَاغِي الْعَادِي الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، فَلَا رُخْصَةَ لَهُ وَلَا كَرَامَةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قَالَ: إِذَا خَرَجَ فِي سَبِيلِ مَنْ سُبُلِ اللَّهِ فَاضْطَرَّ إِلَى شُرْبِ الْخَمْرِ شَرِبَ، وَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى الْمِيتَةِ أَكَلَ. وَإِذَا خَرَجَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، فَلَا رُخْصَةَ لَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " غَيْرَ بَاغٍ " عَلَى الْأَئِمَّةِ، " وَلَا عَادٍ " قَالَ: قَاطِعُ السَّبِيلِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنُِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قَالَ: غَيْرَ قَاطِعٍ السَّبِيلَ، وَلَا مُفَارِقِ الْأَئِمَّةَ، وَلَا خَارِجٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَهُ الرُّخْصَةُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قَالَ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَلَا عَادٍ عَلَى ابْنِ السَّبِيلِ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}: غَيْرَ بَاغٍ الْحَرَامَ فِي أَكْلِهِ، وَلَا مُعْتَدٍ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قَالَ: غَيْرَ بَاغٍ فِي أَكْلِهِ، وَلَا عَادٍ: أَنْ يَتَعَدَّى حَلَالًا إِلَى حَرَامٍ، وَهُوَ يَجِدُ عَنْهُ مَنْدُوحَةً. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قَالَ: غَيْرَ بَاغٍ فِيهَا وَلَا مُعْتَدٍ فِيهَا بِأَكْلِهَا، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ جَابِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ قَوْلَهُ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}، " غَيْرَ بَاغٍ " يَبْتَغِيهِ، " وَلَا عَادٍ ": يَتَعَدَّى عَلَى مَا يُمْسِكُ نَفْسَهُ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}، يَقُولُ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْتَغِيَ حَرَامًا وَيَتَعَدَّاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [سُورَةَ الْمُؤْمِنُونَ: 7\ سُورَةَ الْمَعَارِجِ: 31] حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} قَالَ: أَنْ يَأْكُلَ ذَلِكَ بَغْيًا وَتَعَدِّيًا عَنِ الْحَلَالِ إِلَى الْحَرَامِ، وَيَتْرُكُ الْحَلَالَ وَهُوَ عِنْدَهُ، وَيَتَعَدَّى بِأَكْلِ هَذَا الْحَرَامِ. هَذَا التَّعَدِّي. يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ، وَيَقُولُ: هَذَا وَهَذَا وَاحِدٌ! وَقَالَ آخَرُونَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ فِي أَكْلِهِ شَهْوَةً، وَلَا عَادٍ فَوْقَ مَا لَا بُدَ لَهُ مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ}. أَمَّا " بَاغٍ"، فَيَبْغِي فِيهِ شَهْوَتَهُ. وَأَمَّا " الْعَادِي"، فَيَتَعَدَّى فِي أَكْلِهِ، يَأْكُلُ حَتَّى يَشْبَعَ، وَلَكِنْ يَأْكُلُ مِنْهُ قَدْرَ مَا يُمْسِكُ بِهِ نَفْسَهُ حَتَّى يَبْلَغَ بِهِ حَاجَتَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ بِأَكْلِهِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِنْ أَكْلِهِ، وَلَا عَادٍ فِي أَكْلِهِ، وَلَهُ عَنْ تَرْكِ أَكْلِهِ- بِوُجُودِ غَيْرِهِ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ- مَنْدُوحَةٌ وَغَنَّى. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمْ يُرَخِّصْ لِأَحَدٍ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ بِحَالٍ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَارِجَ عَلَى الْإِمَامِ وَالْقَاطِعَ الطَّرِيقَ، وَإِنْ كَانَا قَدْ أَتَيَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا: مِنْ خُرُوجٍ هَذَا عَلَى مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ، وَسَعْي هَذَا بِالْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَغَيْرُ مُبِيحٍ لَهُمَا فِعْلُهُمَا مَا فَعَلَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا- مَا كَانَ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا قَبْلَ إِتْيَانِهِمَا مَا أَتَيَا مِنْ ذَلِكَ- مِنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمَا. [وَرَدُّهُمَا إِلَى مَحَارِمِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا بَعْدَ فِعْلِهِمَا، مَا فَعَلَا وَإِنْ كَانَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِمَا مَا كَانَ مُرَخَّصًا لَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمَا، وَإِنْ لَمْ نَرَ رَدَّهُمَا إِلَى مَحَارِمِ اللَّهِ عَلَيْهِمَا تَحْرِيمًا، فَغَيْرُ مُرَخِّصٍ لَهُمَا مَا كَانَ عَلَيْهِمَا قَبْلَ ذَلِكَ حَرَامًا]. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْوَاجِبُ عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْبُغَاةِ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْعَادِلَةِ، الْأَوْبَةُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى مَا أَلْزَمَهُمَا اللَّهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ- لَا قَتْلُ أَنْفُسِهِمَا بِالْمَجَاعَةِ، فَيَزْدَادَانِ إِلَى إِثْمِهِمَا إِثْمًا، وَإِلَى خِلَافِهِمَا أَمْرَ اللَّهِ خِلَافًا. وَأَمَّا الَّذِي وَجَّهَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ بَاغٍ فِي أَكْلِهِ شَهْوَةً، فَأَكَلَ ذَلِكَ شَهْوَةً، لَا لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ الْمُخَوِّفِ مِنْهَا الْهَلَاكَ- مِمَّا قَدْ دَخَلَ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ- فَهُوَ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلَفْظِهِ مُخَالِفًا. فَأَمَّا تَوْجِيهُ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: " وَلَا عَادٍ"، وَلَا آكُلُ مِنْهُ شِبِعَةً، وَلَكِنْ مَا يُمْسِكُ بِهِ نَفْسَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ بَعْضُ مَعَانِي الِاعْتِدَاءِ فِي أَكْلِهِ. وَلَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ مِنْ مَعَانِي الِاعْتِدَاءِ فِي أَكْلِهِ مَعْنًى، فَيُقَالُ عَنَى بِهِ بَعْضَ مَعَانِيهِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ مَا قُلْنَا: مِنْ أَنَّهُ الِاعْتِدَاءُ فِي كُلِّ مَعَانِيهِ الْمُحَرَّمَةِ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: " فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ"، يَقُولُ: مِنْ أَكَلَ ذَلِكَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَصَفْنَا، فَلَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَلَا حَرَجَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، " إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ " إِنْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ فِي إِسْلَامِكُمْ، فَاجْتَنَبْتُمْ أَكْلَ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَتَرَكْتُمُ اتِّبَاعَ الشَّيْطَانِ فِيمَا كُنْتُمْ تُحَرِّمُونَهُ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ- طَاعَةً مِنْكُمْ لِلشَّيْطَانِ وَاقْتِفَاءً مِنْكُمْ خُطُوَاتَهُ- مِمَّا لَمَّ أُحَرِّمْهُ عَلَيْكُمْ لِمَا سَلَفَ مِنْكُمْ، فِي كُفْرِكُمْ وَقَبْلَ إِسْلَامِكُمْ، فِي ذَلِكَ مِنْ خَطَأٍ وَذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ، فَصَافِحٌ عَنْكُمْ، وَتَارِكٌ عُقُوبَتَكُمْ عَلَيْهِ، " رَحِيمٌ " بِكُمْ إِنْ أَطَعْتُمُوهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ}، أَحْبَارَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا النَّاسَ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتَهُ، وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، بِرُشًى كَانُوا أُعْطُوهَا عَلَى ذَلِكَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} الْآيَةَ كُلَّهَا، هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالْهُدَى، مِنْ بَعْثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرِهِ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ وَالْإِسْلَامِ وَشَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: {إِنِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ منَ الْكِتَابِ}، فَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ كَتَمُوا اسْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِِ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَوْلَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكُتَّابِ}، وَالَّتِي فِي " آلِ عِمْرَانَ " {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ: 77] نَزَلَتْا جَمِيعًا فِي يَهُودَ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: يَبْتَاعُونَ بِهِ. " وَالْهَاءُ " الَّتِي فِي " بِهِ"، مِنْ ذِكْرِ " الْكِتْمَانِ ". فَمَعْنَاهُ: ابْتَاعُوا بِكِتْمَانِهِمْ مَا كَتَمُوا النَّاسَ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرِ نُبُوَّتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي كَانُوا يُعْطَوْنَ عَلَى تَحْرِيفِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ وَتَأْوِيلِهِمُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَكِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ الْيَسِيرَ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} قَالَ: كَتَمُوا اسْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَذُوا عَلَيْهِ طَمَعًا قَلِيلًا فَهُوَ الثَّمَنُ الْقَلِيلُ. وَقَدْ بَيَّنْتُ فِيمَا مَضَى صِفَةَ " اشْتِرَائِهِمْ " ذَلِكَ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَا هُنَا.
الْقَوْلُ فِيتَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ}،- هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ فِي شَأْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَسِيسِ مِنَ الرِّشْوَةِ يُعْطَوْنَهَا، فَيُحَرِّفُونَ لِذَلِكَ آيَاتِ اللَّهِ وَيُغَيِّرُونَ مَعَانِيهَا " مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ "- بِأَكْلِهِمْ مَا أَكَلُوا مِنَ الرُّشَى عَلَى ذَلِكَ وَالْجُعَالَةِ، وَمَا أَخَذُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْرِ " إِلَّا النَّارَ "- يَعْنِي: إِلَّا مَا يُورِدُهُمُ النَّارَ وَيُصْلِيهُمُوهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [سُورَةَ النِّسَاءِ: 10] مَعْنَاهُ: مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا مَا يُورِدُهُمُ النَّارَ بِأَكْلِهِمْ. فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ " النَّارِ " وَفَهْمِ السَّامِعِينَ مَعْنَى الْكَلَامِ، عَنْ ذِكْرِ " مَا يُورِدُهُمْ، أَوْ يُدْخِلُهُمْ ". وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ}، يَقُولُ: مَا أَخَذُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَجْرِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَلْ يَكُونُ الْأَكْلُ فِي غَيْرِ الْبَطْنِ فَيُقَالُ: {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ}؟ قِيلَ: قَدْ تَقُولُ الْعَرَبُ: " جُعْتُ فِي غَيْرِ بَطْنِي، وَشَبِعْتُ فِي غَيْرِ بَطْنِي"، فَقِيلَ: فِي بُطُونِهِمْ لِذَلِكَ، كَمَا يُقَالُ: " فَعَلَ فُلَانٌ هَذَا نَفْسُهُ ". وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فِيمَا مَضَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، يَقُولُ: وَلَا يُكَلِّمُهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ وَيَشْتَهُونَ، فَأَمَّا بِمَا يَسُوءُهُمْ وَيَكْرَهُونَ، فَإِنَّهُ سَيُكَلِّمُهُمْ. لِأَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ- إِذَا قَالُوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} الْآيَتَيْنِ [سُورَةَ الْمُؤْمِنُونَ: 1108]. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا يُزَكِّيهِمْ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ ذُنُوبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، يَعْنِي: مُوجِعٌ
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}، أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوا الضَّلَالَةَ، وَتَرَكُوا الْهُدَى، وَأَخَذُوا مَا يُوجِبُ لَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَرَكُوا مَا يُوجِبُ لَهُمْ غُفْرَانَهُ وَرِضْوَانَهُ. فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ " الْعَذَابِ " وَ " الْمَغْفِرَةِ"، مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ الَّذِي يُوجِبُهُمَا، لِفَهْمِ سَامِعِي ذَلِكَ لِمَعْنَاهُ وَالْمُرَادِ مِنْهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى. وَكَذَلِكَ بَيَّنَّا وَجْهَ {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} بِاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ، وَالدَّلَالَةِ الشَّاهِدَةِ بِمَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقَوْلِ، فِيمَا مَضَى قَبْلَ، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَمَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُهُمْ إِلَى النَّارِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}، يَقُولُ: فَمَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُهُمْ إِلَى النَّارِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}، يَقُولُ: فَمَا أَجْرَأَهُمْ عَلَيْهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ بِشْرٍ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} قَالَ: وَاللَّهِ مَا لَهُمْ عَلَيْهَا مِنْ صَبْرٍ، وَلَكِنْ مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى النَّارِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ حَمَّادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}، مَا أَجْرَأَهُمْ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلَهُ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}، يَقُولُ: مَا أَجْرَأَهُمْ وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَمَا أَعَمَلَهُمْ بِأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} قَالَ: مَا أَعَمَلَهُمْ بِالْبَاطِلِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِِ أَبِي نُجَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ " مَا " الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: فَمَا الَّذِي صَبَّرَهُمْ؟ أَيُ شَيْءٍ صَبَّرَهُمْ؟
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}، هَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ. يَقُولُ: مَا الَّذِي أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ؟ حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ الْأَعْوَرُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} قَالَ: مَا يُصَبِّرُهُمْ عَلَى النَّارِ، حِينَ تَرَكُوا الْحَقَّ وَاتَّبِعُوا الْبَاطِلَ؟ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} قَالَ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ، وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الصَّبْرِ قَالَ: " فَمَا أَصْبَرُهُمْ"، رَفْعًا. قَالَ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ: " مَا أُصَبِّرُكَ"، مَا الَّذِي فَعَلَ بِكَ هَذَا؟ حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} قَالَ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ. يَقُولُ مَا هَذَا الَّذِي صَبَّرَهُمْ عَلَى النَّارِ حَتَّى جَرَّأَهُمْ فَعَمِلُوا بِهَذَا؟ وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ تَعَجُّبٌ. يَعْنِي: فَمَا أَشَدَّ جَرَاءَتَهُمْ عَلَى النَّارِ بِعَمَلِهِمْ أَعْمَالَ أَهْلِ النَّارِ!
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} قَالَ: مَا أَعَمَلَهُمْ بِأَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ! وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وقَتَادَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. فَمَنْ قَالَ: هُوَ تَعَجُّبٌ- وَجَّهَ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ إِلَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ}، فَمَا أَشَدَّ جَرَاءَتَهُمْ- بِفِعْلِهِمْ مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ- عَلَى مَا يُوجِبُ لَهُمُ النَّارُ! كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [سُورَةَ عَبَسَ: 17]، تَعَجُّبًا مِنْ كُفْرِهِ بِالَّذِي خَلَقَهُ وَسَوَّى خُلُقَهُ. فَأَمَّا الَّذِينَ وَجَّهُوا تَأْوِيلَهُ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ، فَمَعْنَاهُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابِ بِالْمَغْفِرَةِ، فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ- وَالنَّارُ لَا صَبْرَ عَلَيْهَا لِأَحَدٍ- حَتَّى اسْتَبْدَلُوهَا بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ فَاعْتَاضُوهَا مِنْهَا بَدَلًا؟ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى النَّارِ، بِمَعْنَى: مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى عَذَابِ النَّارِ وَأَعْمَلَهُمْ بِأَعْمَالِ أَهْلِهَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنَ الْعَرَبِ: " مَا أَصْبَرَ فُلَانًا عَلَى اللَّهِ"، بِمَعْنَى: مَا أَجْرَأَ فُلَانًا عَلَى اللَّهِ! وَإِنَّمَا يَعْجَبُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ بِإِظْهَارِ الْخَبَرِ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتِهِ، وَاشْتَرَائِهِمْ بِكِتْمَانِ ذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلًا مِنَ السُّحْتِ وَالرُّشَى الَّتِي أَعْطَوْهَا- عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ مِنْ تَقَدُّمِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مُوجِبٌ لَهُمْ سَخِطَ اللَّهِ وَأَلِيمَ عِقَابِهِ. وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: فَمَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى عَذَابِ النَّارِ! وَلَكِنِ اجْتُزِئَ بِذِكْرِ " النَّارِ " مِنْ ذِكْرِ " عَذَابِهَا"، كَمَا يُقَالُ: " مَا أَشْبَهَ سَخَاءَكَ بِحَاتِمٍ"، بِمَعْنَى: مَا أَشْبَهَ سَخَاءَكَ بِسَخَاءِ حَاتِمٍ، " وَمَا أَشْبَهَ شَجَاعَتَكَ بِعَنْتَرَةَ ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}، فَإِنَّهُ اخْتُلِفَ فِي الْمَعْنِيِّ بِـ " ذَلِكَ ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنِيُّ " ذَلِكَ"، فِعْلُهُمْ هَذَا الَّذِي يَفْعَلُونَ مِنْ جَرَاءَتِهِمْ عَلَى عَذَابِ النَّارِ، فِي مُخَالَفَتِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ، وَكِتْمَانَهُمُ النَّاسَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَأَمْرُهُمْ بِبَيَانِهِ لَهُمْ مَنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرِ دِينِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ تَعَالَى {نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}، وَتَنْزِيلُهُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ هُوَ خَبَرُهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ لِنَبِيهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سُورَةَ الْبَقَرَةِ: 7] فَهُمْ- مَعَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ- لَا يَكُونُ مِنْهُمْ غَيْرُ اشْتِرَاءِ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَالْعَذَابِ بِالْمَغْفِرَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: " ذَلِكَ " مَعْلُومٌ لَهُمْ {بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} لِأَنَّا قَدْ أَخْبَرَنَا فِي الْكِتَابِ أَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ، وَالْكِتَابُ حَقٌّ. كَأَنَّ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ كَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عِنْدَهُمْ: ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَهُمْ. لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَنْزِيلِهِ أَنَّ النَّارَ لِلْكَافِرِينَ، وتَنْزِيلُهُ حَقٌّ، فَالْخَبَرُ عَنْ " ذَلِكَ " عِنْدَهُمْ مُضْمَرٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى " ذَلِكَ"، أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ أَهْلَ النَّارِ، فَقَالَ: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ}، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْعَذَابُ بِكُفْرِهِمْ. وَ " هَذَا " هَا هُنَا عِنْدَهُمْ، هِيَ الَّتِي يَجُوزُ مَكَانُهَا " ذَلِكَ"، كَأَنَّهُ قَالَ: فَعَلْنَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَكَفَرُوا بِهِ. قَالَ: فَيَكُونُ " ذَلِكَ "- إِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ- نَصْبًا، وَيَكُونُ رَفْعًا بِالْبَاءِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ عِنْدِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: " ذَلِكَ"، إِلَى جَمِيعِ مَا حَوَاهُ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلََ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}، مِنْ خَبَرِهِ عَنْ أَفْعَالِ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَذِكْرِهِ مَا أَعَدَّ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ هَؤُلَاءِ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ بِكِتْمَانِهِمُ النَّاسَ مَا كَتَمُوا مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ، طَلَبًا مِنْهُمْ لِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا خَسِيسٍ- وَبِخِلَافِهِمْ أَمْرِي وَطَاعَتِي وَذَلِكَ- مِنْ تَرْكِي تَطْهِيرَهُمْ وَتَزْكِيَتَهُمْ وَتَكْلِيمَهُمْ، وَإِعْدَادِي لَهُمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ- بِأَنِّي أَنْزَلَتُ كِتَابِي بِالْحَقِّ، فَكَفَرُوا بِهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ. فَيَكُونُ فِي " ذَلِكَ " حِينَئِذٍ وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ: رَفْعٌ وَنَصْبٌ. وَالرَّفْعُ بِـ " الْبَاءِ"، وَالنُّصْبُ بِمَعْنَى: فَعَلْتُ ذَلِكَ بِأَنِّي أَنْزَلَتُ كِتَابِي بِالْحَقِّ، فَكَفَرُوا بِهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ. وَتُرِكَ ذِكْرُ " فَكَفَرُوا بِهِ وَاخْتَلَفُوا"، اجْتِزَاءً بِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}، يَعْنِي بِذَلِكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. اخْتَلَفُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَكَفَرَتْ الْيَهُودُ بِمَا قَصَّ اللَّهُ فِيهِ مِنْ قَصَصِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمِّهِ. وَصَدَّقَتِ النَّصَارَى بِبَعْضِ ذَلِكَ، وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ، وَكَفَرُوا جَمِيعًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيمَا أَنْزَلَتُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ لَفِي مُنَازَعَةٍ وَمُفَارَقَةٍ لِلْحَقِّ بَعِيدَةٍ مِنَ الرُّشْدِ وَالصَّوَابِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَإِنْ آمَنُوا بِمَثَلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [سُورَةَ الْبَقَرَةِ: 137] كَمَا: حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}، يَقُولُ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. يَقُولُ: هُمْ فِي عَدَاوَةٍ بَعِيدَةٍ. وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى " الشِّقَاقِ"، فِيمَا مَضَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَيْسَ الْبِرَّ الصَّلَاةُ وَحْدَهَا، وَلَكِنَّ الْبِرَّ الْخِصَالُ الَّتِي أُبَيِّنُهَا لَكُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، يَعْنِي: الصَّلَاةَ. يَقُولُ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُصَلُّوا وَلَا تَعْمَلُوا، فَهَذَا مُنْذُ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ ونَزَّلْتُ الْفَرَائِضَ، وَحَدَّ الْحُدُودِ، فَأَمَرَ اللَّهُ بِالْفَرَائِضِ وَالْعَمَلِ بِهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: " لَيْسَ {الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَا ثَبَتَ فِي الْقُلُوبِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِِ أَبِي نُجَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِِ عَبَّاسٍ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، يَعْنِي: الصَّلَاةَ. يَقُولُ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تَصِلُوا وَلَا تَعْمَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، يَعْنِي السُّجُودَ، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَا ثَبَتَ فِي الْقَلْبِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ عَنْ عَبِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ الضِّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا، قَالَ يَقُولُ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُصَلُّوا وَلَا تَعْمَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ. وَهَذَا حِينَ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فأَنْزَلَ اللَّهُ الْفَرَائِضَ وَحَدَّ الْحُدُودَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَمَرَ بِالْفَرَائِضِ أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى اللَّهُ بِذَلِكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ تُصَلِّي فَتُوَجِّهُ قِبَلَ الْمَغْرِبِ وَالنَّصَارَى تُصَلِّي فَتُوَجَّهُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ، فأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، يُخْبِرُهُمْ فِيهَا أَنَّ الْبِرَّ غَيْرُ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُونَهُ، وَلَكِنَّهُ مَا بَيَّنَاهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَتْ الْيَهُودُ تُصَلِّي قِبَلَ الْمَغْرِبِ وَالنَّصَارَى تُصَلِّي قِبَلَ الْمَشْرِقِ، فنَزَلَتْ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ فأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا الرَّجُلَ فَتَلَاهَا عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ قَبْلَ الْفَرَائِضِ إِذَا شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ يُرْجَى لَهُ وَيُطْمَعُ لَهُ فِي خَيْرٍ، فأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}. وَكَانَتْ الْيَهُودُ تَوَجَّهَتْ قِبَلَ الْمَغْرِبِ وَالنَّصَارَى قِبَلَ الْمَشْرِقِ- {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الْآيَةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تُصَلِّي قِبَلَ الْمَغْرِبِ وَالنَّصَارَى قِبَلَ الْمَشْرِقِ، فَنَزَلَتْ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: أَنْ يَكُونَ عَنَى بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى. لِأَنَّ الْآيَاتِ قَبْلَهَا مَضَتْ بِتَوْبِيخِهِمْ وَلَوْمِهِمْ، وَالْخَبَرِ عَنْهُمْ وَعَمَّا أُعِدَّ لَهُمْ مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ. وَهَذَا فِي سِيَاقِ مَا قَبْلَهَا، إِذْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ،- " لَيْسَ الْبِرَّ"،- أَيُّهَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنْ يُوَلِّيَ بَعْضُكُمْ وَجْهَهُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَبَعْضُكُمْ قِبَلَ الْمَغْرِبِ، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ} الْآيَةَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكَيْفَ قِيلَ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ " الْبِرَّ " فِعْلٌ، وَ " مَنْ " اسْمٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْفِعْلُ هُوَ الْإِنْسَانُ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ غَيْرُ مَا تَوَهَّمْتَهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مِنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَوَضَعَ " مَنْ " مَوْضِعَ الْفِعْلِ، اكْتِفَاءً بِدَلَالَتِهِ، وَدَلَالَةِ صِلَتِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ صِفَةٌ، مَنِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ، كَمَا تَفْعَلُهُ الْعَرَبُ، فَتَضَعُ الْأَسْمَاءَ مَوَاضِعَ أَفْعَالِهَا الَّتِي هِيَ بِهَا مَشْهُورَةٌ، فَتَقُولُ: " الْجُودُ حَاتِمٌ، وَالشَّجَاعَةُ عَنْتَرَةُ"، وَ " إِنَّمَا الْجُودُ حَاتِمٌ وَالشَّجَاعَةُ عَنْتَرَةُ"، وَمَعْنَاهَا: الْجُودُ جُودُ حَاتِمٍ فَتَسْتَغْنِي بِذِكْرِ " حَاتِمٍ " إِذْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْجُودِ، مِنْ إِعَادَةِ ذِكْرِ " الْجُودِ " بَعْدَ الَّذِي قَدْ ذَكَرَتْهُ، فَتَضَعُهُ مَوْضِعَ " جُودِهِ)، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى مَا حَذَفَتْهُ، اسْتِغْنَاءً بِمَا ذَكَرَتْهُ عَمَّا لَمَّ تَذْكُرْهُ. كَمَا قِيلَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [سُورَةَ يُوسُفَ: 82] وَالْمَعْنَى: أَهْلُ الْقَرْيَةِ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ، وَهُوَ ذُو الْخِرَقِ الطُّهَوِيُّ: حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا! *** وَمَا هي، وَيْبَ غَيْرِكَ بالْعَنَاقِ يُرِيدُ: بُغَامَ عِنَاقٍ، أَوْ صَوْتَ [عِنَاقٍ]، كَمَا يُقَالُ: " حَسِبْتَ صِيَاحِي أَخَاكَ"، يَعْنِي بِهِ: حَسَبْتَ صِيَاحِي صِيَاحَ أَخِيكَ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَكِنَّ الْبَارَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، فَيَكُونُ " الْبِرُّ " مَصْدَرًا وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، وَأَعْطَى مَالَهُ فِي حِينِ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُ، وَضِنِّهِ بِهِ، وَشُحِّهِ عَلَيْهِ،. كَمَا:- حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ لَيْثًا، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ الْبَكِيلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، أَيْ: يُؤْتِيهِ وَهُوَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، يَأْمُلُ الْعَيْشَ وَيَخْشَى الْفَقْرَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ- وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ- قَالَا جَمِيعًا، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زُبَيْدِ الْيَامِيِّ عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} قَالَ: وَأَنْتَ صَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْعَيْشَ، وَتَخْشَى الْفَقْرَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} قَالَ: وَأَنْتَ حَرِيصٌ شَحِيحٌ، تَأْمُلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ نِعْمَةَ الْمِصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى}، قَالَ: حَرِيصًا شَحِيحًا، يَأْمُلُ الْغِنَى وَيَخْشَى الْفَقْرَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَا حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ سُمْعَتُهُ يُسْأَلُ: هَلْ عَلَى الرَّجُلِ حَقٌّ فِي مَالِهِ سِوَى الزَّكَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ! وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْكَلْبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ قَالَ: قُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ: إِذَا زَكَّى الرَّجُلُ مَالَهُ، أَيَطِيبُ لَهُ مَالُهُ؟ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} إِلَى {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَتْنِيفَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍأَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي سَبْعِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: اجْعَلِيهَا فِي قَرَابَتِك. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ فِيمَا أَعْلَمُ- عَنْ عَامِرٍ، عَنْفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍأَنَّهَا سَمِعَتْهُ يَقُولُ: إِنَّ فِي الْمَالِ لَحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَطَاءٍ فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ لَهُ: إِنْ لِي إِبِلًا فَهَلْ عَلَيَّ فِيهَا حَقٌّ بَعْدَ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ! قَالَ: مَاذَا؟ قَالَ: عَاريَّةُ الدَّلْوِ، وَطُرُوقُ الْفَحْلِ، وَالْحَلَبِ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، ذَكَرَهُ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ فِي: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: تُعْطِيهِ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تُطِيلُ الْأَمَلَ، وَتَخَافُ الْفَقْرَ. وَذَكَرَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ وَاجِبٌ فِي الْمَالِ، حَقٌّ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَفْعَلَهُ، سِوَى الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ. حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {لَيْسَ الْبِرَّ} إِلَى آخَرَ الْآيَةِ». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} قَالَ: أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ وَهُوَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ بِهِ، يَأْمُلُ الْعَيْشَ وَيَخَافُ الْفَقْرَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: وَأَعْطَى الْمَالَ- وَهُوَ لَهُ مُحِبٌّ، حَرِيصٌ عَلَى جَمْعِهِ، شَحِيحٌ بِهِ- ذَوِي قَرَابَتِهِ فَوَصَلَ بِهِ أَرْحَامَهُمْ. وَإِنَّمَا قُلْتُ عَنَى بِقَوْلِهِ: " ذَوِي الْقُرْبَى"، ذَوِي قُرَابَةِ مُؤَدِّي الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ، لِلْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِهِفَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ: (أَيُ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جُهْدُ الْمُقِلِّ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ الْكَاشِح). وَأَمَّا " الْيَتَامَى " " وَالْمَسَاكِينُ)، فَقَدْ بَيَّنَّا مَعَانِيَهُمَا فِيمَا مَضَى. وَأَمَّا " ابْنُ السَّبِيلِ"، فَإِنَّهُ الْمُجْتَازُ بِالرَّجُلِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِفَتِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الضَّيْفُ مِنْ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " وَابْنِ السَّبِيلِ " قَالَ: هُوَ الضَّيْفُ قَالَ: قَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُت». قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: «حَقُّ الضِّيَافَةِ ثَلَاثُ لَيَالٍ، فَكُلُّ شَيْءٍ أَضَافُهُ بَعْدَ ذَلِكَ صَدَقَة». وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْمُسَافِرُ يَمُرُّ عَلَيْكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ: " وَابْنِ السَّبِيلِ " قَالَ: الْمُجْتَازُ مِنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَابْنِ السَّبِيلِ " قَالَ: الَّذِي يَمُرُّ عَلَيْكَ وَهُوَ مُسَافِرٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنِ ابْنِِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وقَتَادَةَ مِثْلَهُ. وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْمُسَافِرِ " ابْنُ السَّبِيلِ"، لِمُلَازَمَتِهِ الطَّرِيقَ- وَالطَّرِيقُ هُوَ " السَّبِيلُ "- فَقِيلَ لِمُلَازَمَتِهِ إِيَّاهُ فِي سَفَرِهِ: " ابْنَهُ"، كَمَا يُقَالُ لِطَيْرِ الْمَاءِ " ابْنُ الْمَاءِ " لِمُلَازَمَتِهِ إِيَّاهُ، وَلِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَتْ عَلَيْهِ الدُّهُورُ " ابْنُ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَالْأَزْمِنَةِ"، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا *** عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالسَّائِلِينَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: الْمُسْتَطْعِمِينَ الطَّالِبِينَ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ حَصِينٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَالسَّائِلِينَ} قَالَ: الَّذِي يَسْأَلُكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَفِي الرِّقَابِ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ: وَفِي فَكِّ الرِّقَابِ مِنَ الْعُبُودَةِ، وَهُمُ الْمُكَاتَبُونَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ مِنَ الْعُبُودَةِ، بِأَدَاءِ كِتَابَاتِهِمُ الَّتِي فَارَقُوا عَلَيْهَا سَادَاتَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ}، أَدَامَ الْعَمَلَ بِهَا بِحُدُودِهَا، وَبُقُولِهِ {وَآتَى الزَّكَاةَ}، أَعْطَاهَا عَلَى مَا فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَهَلْ مِنْ حَقٍّ يَجِبُ فِي مَالٍ إِيتَاؤُهُ فَرْضًا غَيْرُ الزَّكَاةِ؟ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ حُقُوقٌ تَجِبُ سِوَى الزَّكَاةِ واعتلُّوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: لِمَا قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى}، وَمَنْ سَمَّى اللَّهَ مَعَهُمْ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}، عَلَّمَنَا أَنَّ الْمَالَ- الَّذِي وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَنَّهُمْ يُؤْتُونَهُ ذَوِي الْقُرْبَى، وَمَنْ سَمَّى مَعَهُمْ- غَيْرُ الزَّكَاةِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُمْ يُؤْتُونَهَا. لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَالًا وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ لِتَكْرِيرِهِ مَعْنًى مَفْهُومٌ. قَالُوا: فَلَمَّا كَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَقُولَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَوْلًا لَا مَعْنَى لَهُ، عَلَّمَنَا أَنَّ حُكْمَ الْمَالِ الْأَوَّلِ غَيْرُ الزَّكَاةِ، وَأَنَّ الزَّكَاةَ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْدَ غَيْرِهِ. قَالُوا: وَبَعْدُ، فَقَدْ أَبَانَ تَأْوِيلَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ صِحَّةَ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمَالُ الْأَوَّلُ هُوَ الزَّكَاةُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَصَفَ إِيتَاءَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ آتَوْهُ ذَلِكَ، فِي أَوَّلِ الْآيَةِ. فَعَرَّفَ عِبَادَهُ- بِوَصْفِهِ مَا وُصِفَ مِنْ أَمْرِهِمْ- الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَضَعُوا فِيهَا زَكَوَاتِهِمْ، ثُمَّ دَلَّهُمْ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَآتَى الزَّكَاةَ}، أَنَّ الْمَالَ الَّذِي آتَاهُ الْقَوْمُ هُوَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ كَانَتْ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانَ أَهْلُ سُهْمَانِهَا هُمُ الَّذِينَ أَخْبَرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّ الْقَوْمَ آتَوْهُمْ أَمْوَالَهُمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}، فَإِنْ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ لَا يَنْقَضُّونَ عَهْدَ اللَّهِ بَعْدَ الْمُعَاهَدَةِ، وَلَكِنْ يُوفُونَ بِهِ وَيُتِمُّونَهُ عَلَى مَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ مَنْ عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ. كَمَا:- حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} قَالَ: فَمَنْ أَعْطَى عَهْدَ اللَّهِ ثُمَّ نَقَضَهُ، فَاللَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ. وَمَنْ أَعْطَى ذِمَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ غَدَرَ بِهَا، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصْمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ " الْعَهْدَ " فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَا هُنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ " الصَّبْرِ " فِيمَا مَضَى قَبْلُ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَالْمَانِعِينَ أَنْفُسَهُمْ- فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ- مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ لَهُمُ، الْحَابِسِيهَا عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ. ثُمَّ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} بِمَا:- حَدَّثَنِي بِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْقََزِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي- وَحَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ- قَالَا جَمِيعًا، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا الْبَأْسَاءُ فَالْفَقْرُ، وَأَمَّا الضَّرَّاءُ فَالسَّقَمُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي- وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ- قَالَا جَمِيعًا، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} قَالَ: الْبَأْسَاءُ الْجُوعُ، وَالضَّرَّاءُ الْمَرَضُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: الْبَأْسَاءُ الْحَاجَةُ، وَالضَّرَّاءُ الْمَرَضُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ الْبَأْسَاءَ الْبُؤْسُ وَالْفَقْرُ، وَأَنَّ الضَّرَّاءَ السَّقَمُ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ أَيُّوبُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ: 83]. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} قَالَ: الْبُؤْسُ: الْفَاقَةُ وَالْفَقْرُ، وَالضَّرَّاءُ: فِي النَّفْسِ؛ مِنْ وَجَعٍ أَوْ مَرَضٍ يُصِيبُهُ فِي جَسَدِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} قَالَ: الْبَأْسَاءُ: الْبُؤْسُ، وَالضَّرَّاءُ: الزَّمَانَةُ فِي الْجَسَدِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَعِيمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبِيدٌ، عَنِ الضِّحَاكِ قَالَ: {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، الْمَرَضُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} قَالَ: الْبَأْسَاءُ: الْبُؤْسُ وَالْفَقْرُ، وَالضَّرَّاءُ: السَّقَمُ وَالْوَجَعُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبِيدُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَالَ: سَمِعَتْ الضِّحَاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، أَمَّا الْبَأْسَاءُ: الْفَقْرُ، وَالضَّرَّاءُ: الْمَرَضُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى " فَعَلَاءَ " لَيْسَ لَهُ " أَفْعَلُ " لِأَنَّهُ اسْمٌ، كَمَا قَدْ جَاءَ " أَفْعَلُ " فِي الْأَسْمَاءِ لَيْسَ لَهُ " فَعَلَاءُ"، نَحْوُ " أَحْمَدَ ". وَقَدْ قَالُوا فِي الصِّفَةِ " أَفْعَلُ"، وَلِمَ يَجِيءْ لَهُ " فَعَلَاءُ"، فَقَالُوا: " أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ أَوْجَلُ"، وَلَمْ يَقُولُوا: " وَجَلَاءُ ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ. فَإِنَّ " الْبَأْسَاءَ"، الْبُؤْسُ، " وَالضَّرَّاءَ " الضُّرُّ. وَهُوَ اسْمٌ يَقَعُ إِنْ شِئْتَ لِمُؤَنَّثٍ، وَإِنْ شِئْتَ لِمُذَكِّرٍ، كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ: فَتُنْتَجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ، كُلُّهُمْ *** كَأَحْمَرِ عَادٍ، ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ يَعْنِي فَتَنْتِجُ لَكُمْ غِلْمَانَ شُؤْمٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ اسْمًا يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ، لَجَازَ إِجْرَاءُ " أَفْعَلَ " فِي النَّكِرَةِ، وَلَكِنَّهُ اسْمٌ قَامَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "لَئِنْ طَلَبَتْ نُصْرَتَهُمْ لِتَجِدُنَّهُمْ غَيْرَ أَبْعَدَ"، بِغَيْرِ إِجْرَاءٍ. وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ اسْمًا لِلْمَصْدَرِ، لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ عُلِمَ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ مَصْدَرًا فَوَقَعَ بِتَأْنِيثٍ، لَمْ يَقَعْ بِتَذْكِيرٍ، وَلَوْ وَقَعَ بِتَذْكِيرٍ، لَمْ يَقَعْ بِتَأْنِيثٍ. لِأَنَّ مَنْ سُمِّيَ بِـ " أَفْعَلَ " لَمْ يُصْرَفْ إِلَى " فُعْلَى"، وَمَنْ سُمِّيَ بِـ " فُعْلَى " لَمْ يُصْرَفْ إِلَى " أَفْعَلَ"، لِأَنَّ كُلَّ اسْمٍ يَبْقَى بِهَيْئَتِهِ لَا يُصْرَفُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُمَا لُغَتَانِ. فَإِذَا وَقَعَ بِالتَّذْكِيرِ، كَانَ بِأَمْرٍ " أَشْأَمَ"، وَإِذَا وَقَعَ " الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ"، وَقَعَ: الْخَلَّةُ الْبَأْسَاءُ، وَالْخَلَّةُ الضَّرَّاءُ. وَإِنْ كَانَ لَمْ يُبْنَ عَلَى " الضَّرَّاءِ"، " الْأَضَرِّ"، وَلَا عَلَى " الْأَشْأَمِ"، " الشَّأْمَاءَ ". لِأَنَّهُ لَمْ يُرَدْ مِنْ تَأْنِيثِهِ التَّذْكِيرُ، وَلَا مِنْ تَذْكِيرِهِ التَّأْنِيثُ، كَمَا قَالُوا: " امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ"، وَلَمْ يَقُولُوا: " رَجُلٌ أَحْسَنُ ". وَقَالُوا: " رَجُلٌ أَمْرَدُ"، وَلَمْ يَقُولُوا: " امْرَأَةٌ مَرْدَاءُ ". فَإِذَا قِيلَ: " الْخَصْلَةُ الضَّرَّاءُ " وَ " الْأَمْرُ الْأَشْأَمُ"، دَلَّ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يَكُونَ اسْمًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ كَفَى مِنَ الْمَصْدَرِ. وَهَذَا قَوْلٌ مُخَالِفٌ تَأْوِيلَ مَنْ ذَكَرْنَا تَأْوِيلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِيَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ تَأَوَلُوا " الْبَأْسَاءَ " بِمَعْنَى الْبُؤْسِ، " وَالضَّرَّاءَ " بِمَعْنَى الضُّرِّ فِي الْجَسَدِ. وَذَلِكَ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ وَجَّهُوا " الْبَأْسَاءَ وَالضَّرَّاءَ " إِلَى أَسْمَاءِ الْأَفْعَالِ، دُونَ صِفَاتِ الْأَسْمَاءِ وَنُعُوتِهَا. فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِـ {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، أَنْ تَكُونَ " الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ " أَسْمَاءَ أَفْعَالٍ، فَتَكُونُ " الْبَأْسَاءُ " اسْمًا " لِلْبُؤْسِ"، وَ " الضَّرَّاءُ " اسْمًا " لِلضُّرِّ ". وَأَمَّا " الصَّابِرِينَ " فَنُصِبَ، وَهُوَ مِنْ نَعْتِ " مَنْ " عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ. لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ- إِذَا تَطَاوَلَتْ صِفَةُ الْوَاحِدِ- الِاعْتِرَاضَ بِالْمَدْحِ وَالذَّمِّ بِالنَّصْبِ أَحْيَانًا، وَبِالرَّفْعِ أَحْيَانًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: إلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ *** وَلَيْثَ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ وَذَا الرَّأْيِ حِينَ تُغَمُّ الأمُورُ *** بِذَاتِ الصَّلِيلِ وَذَاتِ اللُّجُمْ فَنَصَبَ " لَيْثَ الْكَتِيبَةِ " وَذَا " الرَّأْيِ " عَلَى الْمَدْحِ، وَالِاسْمُ قَبْلَهُمَا مَخْفُوضٌ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَةٍ وَاحِدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ: فَلَيْتَ الَّتِي فِيهَا النُّجُومُ تَوَاضَعَتْ *** عَلَى كُلِّ غَثٍّ مِنْهُمُ وسَمِينِ غُيُوثَ الْوَرَى فِي كُلِ مَحْلٍ وَأَزْمَةٍ *** أُسُودَ الشَّرَى يَحْمِينَ كُلَّ عَرِينِ وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ}، نُصِبَ عَطْفًا عَلَى " السَّائِلَيْنِ ". كَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ كَانَ عِنْدَهُ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ، وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَظَاهِرُ كِتَابِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى خَطَأِ هَذَا الْقَوْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، هُمْ أَهْلُ الزَّمَانَةِ فِي الْأَبْدَانِ، وَأَهْلُ الْإِقْتَارِ فِي الْأَمْوَالِ. وَقَدْ مَضَى وَصْفُ الْقَوْمِ بِإِيتَاءِ- مَنْ كَانَ ذَلِكَ صِفَتُهُ- الْمَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ}، وَأَهْلُ الْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ، هُمْ أَهْلُ {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الضَّرَّاءِ ذَا بَأْسَاءَ، لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ لَهُ قَبُولُ الصَّدَقَةِ، وَإِنَّمَا لَهُ قَبُولُهَا إِذَا كَانَ جَامِعًا إِلَى ضَرَّائِهِ بَأْسَاءَ، وَإِذَا جَمَعَ إِلَيْهَا بَأْسَاءَ، كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ قَدْ دَخَلُوا فِي جُمْلَةِ " الْمَسَاكِينِ " الَّذِينَ قَدْ مَضَى ذَكَرُهُمْ قَبْلَ قَوْلِهِ: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ}. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، ثُمَّ نَصَبَ " الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ " بِقَوْلِهِ {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}، كَانَ الْكَلَامُ تَكْرِيرًا بِغَيْرِ فَائِدَةِ مَعْنًى. كَأَنَّهُ قِيلَ: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ. وَاللَّهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي خِطَابِهِ عِبَادَهُ. وَلَكِنْ مَعْنًى ذَلِكَ: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. " وَالْمُوفُونَ " رُفِعَ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَةُ " مَنْ"، وَ " مَنْ " رُفِعَ، فَهُوَ مُعَرَّبٌ بِإِعْرَابِهِ. " وَالصَّابِرِينَ " نُصِبَ- وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَتِهِ- عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ الَّذِي وَصَفْنَا قَبْلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحِينَ الْبَأْسِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَحِينَ الْبَأْسِ}، وَالصَّابِرِينَ فِي وَقْتِ الْبَأْسِ، وَذَلِكَ وَقْتَ شِدَّةِ الْقِتَالِ فِي الْحَرْبِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَنْقََزِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَحِينَ الْبَأْسِ} قَالَ: حِينَ الْقِتَالِ. حَدَّثَنِي مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَحِينَ الْبَأْسِ} الْقِتَالُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَحِينَ الْبَأْسِ}، أَيْ عِنْدَ مَوَاطِنِ الْقِتَالِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَحِينَ الْبَأْسِ}، الْقِتَالُ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ {وَحِينَ الْبَأْسِ}، عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَعِيمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدَةَ عَنِ الضِّحَاكِ: {وَحِينَ الْبَأْسِ}، الْقِتَالِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبِيدُ بْنُ الطُّفَيْلِ أَبُو سِيدَانَ قَالَ: سَمِعْتُ الضِّحَاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَحِينَ الْبَأْسِ} قَالَ: الْقِتَالُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}، مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَنَعَتَهُمُ النَّعْتَ الَّذِي نَعَتَهُمْ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. يَقُولُ: فَمَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَهُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ فِي إِيمَانِهِمْ، وَحَقَّقُوا قَوْلَهُمْ بِأَفْعَالِهِمْ- لَا مَنْ وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَهُوَ يُخَالِفُ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ، وَيَنْقَضُّ عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ، وَيَكْتُمُ النَّاسَ بَيَانَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِبَيَانِهِ، وَيُكَذِّبُ رُسُلَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَأُولَئِكَ الَّذِينَ اتَّقَوْا عِقَابَ اللَّهِ، فَتَجَنَّبُوا عِصْيَانَهُ، وَحَذِرُوا وَعْدَهُ، فَلَمْ يَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ. وَخَافُوهُ، فَقَامُوا بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}، كَانَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} قَالَ: فَتَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْإِيمَانِ، فَكَانَتْ حَقِيقَتُهُ الْعَمَلَ، صَدَقُوا اللَّهَ. قَالَ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ الْإِيمَانِ، وَحَقِيقَتُهُ الْعَمَلُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْقَوْلِ عَمَلٌ فَلَا شَيْءَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، فُرِضَ عَلَيْكُمْ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَفُرِضَ عَلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْقِصَاصُ مَنْ قَاتِلِ وَلَيِّهِ؟ قِيلَ: لَا، وَلَكِنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ ذَلِكَ، وَالْعَفْوُ، وَأَخْذُ الدِّيَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} أَيْ أَنَّالْحُرَّ إِذَا قَتَلَ الْحُرَّ، فَدَمُ الْقَاتِلِ كُفْءٌ لِدَمِ الْقَتِيلِ، وَالْقِصَاصُ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، فَلَا تُجَاوِزُوا بِالْقَتْلِ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَقْتُلْ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا بِقَتِيلِكُمْ غَيْرَ قَاتِلِهِ. وَالْفَرْضُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا فِي الْقِصَاصِ، هُوَ مَا وَصَفْتُ مِنْ تَرْكِ الْمُجَاوَزَةِ بِالْقِصَاصِ قَتْلَ الْقَاتِلِ بِقَتِيلِهِ إِلَى غَيْرِهِ، لَا أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْنَا الْقِصَاصُ فَرْضًا وُجُوبَ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، حَتَّى لَا يَكُونَ لَنَا تَرْكُهُ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فَرْضًا لَا يَجُوزُ لَنَا تَرْكُهُ، لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}، مَعْنَى مَفْهُومٌ. لِأَنَّهُ لَا عَفْوٌ بَعْدَ الْقِصَاصِ فَيُقَالُ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مُقَاصَّةُ دِيَاتِ بَعْضِ الْقَتْلَى بِدِيَاتِ بَعْضٍ. وَذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ عِنْدَهُمْ نَزَلَتْ فِي حِزْبَيْنِ تُحَارِبُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَأُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمْ بِأَنْ تَسْقُطَ دِيَاتُ نِسَاءِ أَحَدِ الْحِزْبَيْنِ بِدِيَاتِ نِسَاءِ الْآخَرِينَ، وَدِيَاتُ رِجَالِهِمْ بِدِيَاتِ رِجَالِهِمْ، وَدِيَاتُ عَبِيدِهِمْ بِدِيَاتِ عَبِيدِهِمْ، قِصَاصًا. فَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَعْنَى " الْقَصَاصِ " فِي هَذِهِ الْآيَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}، فَمَا لَنَا أَنْ نَقْتَصَّ لِلْحُرِّ إِلَّا مِنَ الْحَرِّ، وَلَا لِلْأُنْثَى إِلَّا مِنَ الْأُنْثَى؟ قِيلَ: بَلْلَنَا أَنْ نَقْتَصَّ لِلْحُرِّ مِنَ الْعَبْدِ، وَلِلْأُنْثَى مِنَ الذِّكْرِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [سُورَةَ الْإِسْرَاءِ: 33]، وَبِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُم». فَإِنْ قَالَ: فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ، فَمَا وَجْهُ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ؟ قِيلَ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ كَانُوا إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَبْدَ قَوْمٍ آخَرِينَ، لَمْ يَرْضَوْا مِنْ قَتِيلِهِمْ بِدَمِ قَاتِلِهِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ عَبْدٌ، حَتَّى يَقْتُلُوا بِهِ سَيِّدَهُ. وَإِذَا قَتَلَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِهِمْ رَجُلًا لَمْ يَرْضَوْا مِنْ دَمِ صَاحِبِهِمْ بِالْمَرْأَةِ الْقَاتِلَةِ، حَتَّى يَقْتُلُوا رَجُلًا مِنْ رَهْطِ الْمَرْأَةِ وَعَشِيرَتِهَا. فأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الَّذِي فُرِضَ لَهُمْ مِنَ الْقِصَاصِ أَنْ يَقْتُلُوا بِالرَّجُلِ الرَّجُلَ الْقَاتِلَ دُونَ غَيْرِهِ، وَبِالْأُنْثَى الْأُنْثَى الْقَاتِلَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَبِالْعَبْدِ الْعَبْدَ الْقَاتِلَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحْرَارِ، فَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَعَدَّوُا الْقَاتِلَ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْقِصَاصِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ- وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ- قَالَا حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} قَالَ: نَزَلَتْ فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ اقْتَتَلَتَا قِتَالَ عُمِّيَّةٍ، فَقَالُوا: نَقْتُلُ بِعَبْدِنَا فَلَانَ ابْنَ فُلَانٍ، وَبِفُلَانَةٍ فَلَانَ بْنَ فُلَانٍ، فأَنْزَلَ اللَّهُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}. حَدَّثَنَا بِشَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِمْ بَغْيٌ وَطَاعَةٌ لِلشَّيْطَانِ، فَكَانَ الْحَيُّ إِذَا كَانَ فِيهِمْ عُدَّةٌ وَمَنَعَةٌ، فَقَتَلَ عَبْدُ قَوْمٍ آخَرِينَ عَبْدًا لَهُمْ، قَالُوا: لَا نَقْتُلُ بِهِ إِلَّا حَرًّا! تَعَزُّزًا، لِفَضْلِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَإِذَا قُتِلَتْ لَهُمُ امْرَأَةٌ قَتَلَتْهَا امْرَأَةُ قَوْمٍ آخَرِينَ قَالُوا: لَا نَقْتُلُ بِهَا إِلَّا رَجُلًا! فأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى، فَنَهَاهُمْ عَنِ الْبَغْيِ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [سُورَةَ الْمَائِدَةِ: 45]. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} قَالَ: لَمْ يَكُنْ لِمَنْ قَبْلَنَا دِيَةٌ، إِنَّمَا هُوَ الْقَتْلُ، أَوِ الْعَفْوُ إِلَى أَهْلِهِ. فنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَكَانُوا إِذَا قُتِلَ مِنَ الْحَيِّ الْكَثِيرِ عَبْدٌ قَالُوا: لَا نَقْتُلُ بِهِ إِلَّا حُرًّا. وَإِذَا قُتِلَتْ مِنْهُمُ امْرَأَةٌ قَالُوا: لَا نَقْتُلُ بِهَا إِلَّا رَجُلًا. فأَنْزَلَ اللَّهُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ: سَمِعْتُ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي قِتَالِ عُمِّيَّةٍ، إِذَا أُصِيبَ مِنْ هَؤُلَاءِ عَبْدٌ وَمِنْ هَؤُلَاءِ عَبْدٌ، تَكَافَآ، وَفِي الْمَرْأَتَيْنِ كَذَلِكَ، وَفِي الْحُرَّيْنِ كَذَلِكَ. هَذَا مَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ}، الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةِ فِي فَرِيقَيْنِ كَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُتِلَ مِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَأُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، بِأَنْ يَجْعَلَ دِيَاتِ النِّسَاءِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قِصَاصًا بِدِيَاتِ النِّسَاءِ مِنَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، وَدِيَاتِ الرِّجَالِ بِالرِّجَالِ، وَدِيَاتِ الْعَبِيدِ بِالْعَبِيدِ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} قَالَ: اقْتَتَلَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ، أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخِرُ مَعَاهَدٌ، فِي بَعْضِ مَا يَكُونُ بَيْنَ الْعَرَبِ مِنَ الْأَمْرِ، فَأَصْلَحُ بَيْنَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ كَانُوا قَتَلُوا الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ وَالنِّسَاءَ- عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْحُرُّ دِيَةَ الْحُرِّ، وَالْعَبْدَ دِيَةَ الْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى دِيَةَ الْأُنْثَى، فَقَاصَّهُمْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ قِتَالٌ، كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ الطَّوْلُ فَكَأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْفَضْلَ. فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُرَّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدَ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} قَالَ: نَزَلَتْ فِي قِتَالِ عُمِّيَّةٍ. قَالَ شُعْبَةُ: كَأَنَّهُ فِي صُلْحٍ. قَالَ: اصْطَلَحُوا عَلَى هَذَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} قَالَ: نَزَلَتْ فِي قِتَالِ عُمِّيَّةٍ، قَالَ: كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِمُقَاصَّةِ دِيَةِ الْحُرِّ وَدِيَةِ الْعَبْدِ، وَدِيَةِ الذَّكَرِ وَدِيَةِ الْأُنْثَى، فِي قَتْلِ الْعَمْدِ- إِنِ اقْتُصَّ لِلْقَتِيلِ مِنَ الْقَاتِلِ، وَالتَّرَاجُعِ بِالْفَضْلِ وَالزِّيَادَةِ بَيْنَ دِيَتَيِ الْقَتِيلِ وَالْمُقْتَصِّ مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} قَالَ: حُدِّثْنَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَيُّمَا حُرٍّ قَتَلَ عَبْدًا فَهُوَ قَوَدٌ بِهِ، فَإِنْ شَاءَ مَوَالِي الْعَبْدِ أَنْ يَقْتُلُوا الْحُرَّ قَتَلُوهُ، وَقَاصُّوهُمْ بِثَمَنِ الْعَبْدِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ، وَأَدَّوْا إِلَى أَوْلِيَاءَ الْحُرِّ بَقِيَّةَ دِيَتِهِ. وَإِنَّ عَبْدٌ قَتَلَ حُرًّا فَهُوَ بِهِ قَوْدٌ، فَإِنْ شَاءَ أَوْلِيَاءُ الْحُرِّ قَتَلُوا الْعَبْدَ وَقَاصُّوهُمْ بِثَمَنِ الْعَبْدِ، وَأَخَذُوا بَقِيَّةَ دِيَةِ الْحُرِّ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ كُلَّهَا وَاسْتَحْيَوُا الْعَبْدَ. وَأَيُّ حَرٍّ قَتَلَ امْرَأَةً فَهُوَ بِهَا قَوَدٌ، فَإِنْ شَاءَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ قَتَلُوهُ وَأَدَّوْا نِصْفَ الدِّيَةِ إِلَى أَوْلِيَاءَ الْحُرِّ. وَإِنِ امْرَأَةً قَتَلَتْ حُرًّا فَهِيَ بِهِ قَوَدٌ، فَإِنْ شَاءَ أَوْلِيَاءُ الْحُرِّ قَتَلُوهَا وَأَخَذُوا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ كُلَّهَا وَاسْتَحْيَوْهَا، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: أَنْ عَلِيًّا قَالَ فِي رَجُلٍ قَتَلَ امْرَأَتَهُ، قَالَ: إِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُ وَغَرِمُوا نِصْفَ الدِّيَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، حَتَّى يُعْطُوا نِصْفَ الدِّيَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: فِيرَجُلٍ قَتَلَ امْرَأَتَهُ عَمْدًافَأَتَوْا بِهِ عَلِيًّا فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ فَاقْتُلُوهُ، وَرُدُّوا فَضْلَ دِيَةِ الرَّجُلِ عَلَى دِيَةِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي حَالِ مَا نَزَلَتْ، وَالْقَوْمُ لَا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةَ بِالْمَرْأَةِ، حَتَّى سَوَّى اللَّهُ بَيْنَ حُكْمِ جَمِيعِهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سُورَةَ الْمَائِدَةِ: 45]، فَجَعَلَ جَمِيعَهُمْ قَوْدَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ، وَلَكِنْ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةَ بِالْمَرْأَةِ، فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، فَجَعَلَ الْأَحْرَارَ فِي الْقِصَاصِ سَوَاءً فِيمَا بَيْنَهُمْ، فِي الْعَمْدِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ. وَجَعَلَ الْعَبِيدَ مُسْتَوِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْعَمْدِ، فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ، رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِذْ كَانَ مُخْتَلَفًا الِاخْتِلَافَ الَّذِي وَصَفْتُ، فِيمَا نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا اسْتِعْمَالُهَا، فِيمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ، بِالْخَبَرِ الْقَاطِعِ الْعُذْرَ. وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّقْلِ الْعَامِّ: أَنَّ نَفْسَ الرَّجُلِ الْحُرِّ قَوَدٌ قِصَاصًا بِنَفْسِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ مُخْتَلِفَةً فِي التَّرَاجُعِ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ دِيَةِ الرَّجُلِِ وَالْمَرْأَةِِ- عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَا مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ- كَانَ وَاضِحًا فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالْقِصَاصِ فِي ذَلِكَ. وَالتَّرَاجُعُ بِفَضْلِ مَا بَيْنَ الدِّيَتَيْنِ، بِإِجْمَاعِ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ: عَلَى أَنَّ حَرَامًا عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُتْلِفَ مِنْ جَسَدِهِ عُضْوًا بِعِوَضٍ يَأْخُذُهُ عَلَى إِتْلَافِهِ، فَدَعْ جَمِيعَهُ وَعَلَى أَنَّ حَرَامًا عَلَى غَيْرِهِ إِتْلَافُ شَيْءٍ مِنْهُ- مِثْلُ الَّذِي حُرِّمَ مِنْ ذَلِكَ- بِعِوَضٍ يُعْطِيهِ عَلَيْهِ. فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُ الرَّجُلِ الْحُرِّ بِنَفْسِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ قَوْدًا. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ بَيِّنًا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} أَنْلَا يُقَادَ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ، وَأَنْ لَا تُقْتَلَ الْأُنْثَى بِالذِّكْرِ وَلَا الذِّكْرُ بِالْأُنْثَى. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ بَيِّنًا أَنَّ الْآيَةَ مَعْنِيٌّ بِهَا أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ الْآخَرَيْنِ. إِمَّا قَوْلُنَا: مِنْ أَنْ لَا يُتَعَدَّى بِالْقِصَاصِ إِلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ وَالْجَانِي، فَيُؤْخَذُ بِالْأُنْثَى الذَّكَرُ وَبِالْعَبْدِ الْحُرُّ. وَإِمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ خَاصَّةً، أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ دِيَاتِ قَتْلَاهُمْ قِصَاصًا بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، كَمَا قَالَهُ السُّدِّيُّ وَمَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْجَمِيعُ- لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ- عَلَى أَنَّ الْمُقَاصَّةَ فِي الْحُقُوقِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْضِ فِي ذَلِكَ قَضَاءً ثُمَّ نَسَخَهُ. وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} يُنْبِئُ عَنْ أَنَّهُ فَرْضٌ، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْقَوْلَ خِلَافُ مَا قَالَهُ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ. لِأَنَّ مَا كَانَ فَرْضًا عَلَى أَهْلِ الْحُقُوقِ أَنْ يَفْعَلُوهُ، فَلَا خِيَارَ لَهُمْ فِيهِ. وَالْجَمِيعُ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ لِأَهْلِ الْحُقُوقِ الْخِيَارَ فِي مُقَاصَّتِهِمْ حُقُوقَهُمْ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ. فَإِذْ تَبَيَّنَ فَسَادُ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَالصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا قُلْنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِذْ ذَكَرْتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}- بِمَعْنَى: فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ: لَا يَعْرِفُ لِقَوْلِ الْقَائِلِ: " كُتِبَ " مَعْنًى إِلَّا مَعْنَى: خَطَّ ذَلِكَ، فَرَسَمَ خَطًّا وَكِتَابًا، فَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: " كُتِبَ " فُرِضَ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَوْجُودٌ، وَفِي أَشْعَارِهِمْ مُسْتَفِيضٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا *** وَعَلَى الْمُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ وَقَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي جَعْدَةَ: يَا بِنْتَ عَمِّي، كِتَابُ اللَّهِ أَخْرَجَنِي *** عَنْكُمْ، فَهَلْ أَمْنَعَنَّ الَلَّهَ مَا فَعَلَا! وَذَلِكَ أَكْثَرُ فِي أَشْعَارِهِمْ وَكَلَامِهِمْ مِنْ أَنْ يُحْصَى. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى: فُرِضَ، فَإِنَّهُ عِنْدِي مَأْخُوذٌ مِنْ " الْكِتَابِ " الَّذِي هُوَ رَسْمٌ وَخَطٌّ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ كَتَبَ جَمِيعَ مَا فَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا هُمْ عَامَلُوهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [سُورَةَ الْبُرُوجِ: 22] وَقَالَ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [سُورَةَ الْوَاقِعَةِ: 78]. فَقَدْ تَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا فَرَضَهُ عَلَيْنَا، فَفِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَكْتُوبٌ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ:- إِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ- {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}، كَتَبَ عَلَيْكُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، فَرْضًا، أَنْ لَا تَقْتُلُوا بِالْمَقْتُولِ غَيْرَ قَاتِلِهِ. وَأَمَّا " الْقِصَاصُ " فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: " قَاصَصْتُ فُلَانًا حَقِّي قِبَلَهُ مِنْ حَقِّهِ قَبَلِي، قِصَاصًا وَمُقَاصَّةً ". فَقَتْلُ الْقَاتِلِ بِالَّذِي قَتْلَهُ " قِصَاصٌ"، لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ مَثَلُ الَّذِي فَعَلَ بِمَنْ قَتَلَهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ عُدْوَانًا وَالْآخَرُ حَقًّا. فَهُمَا وَإِنِ اخْتَلَفَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَهُمَا مُتَّفِقَانِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَدْ فَعَلَ بِصَاحِبِهِ مِثْلَ الَّذِي فَعَلَ صَاحِبُهُ بِهِ. وَجُعِلَ فِعْلُ وَلِيِّ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ إِذَا قَتَلَ قَاتِلَ وَلَيِّهِ- قِصَاصًا، إِذْ كَانَ بِسَبَبِ قَتْلِهِ اسْتَحَقَّ قَتْلَ مِنْ قَتَلَهُ، فَكَأَنَّ وَلِيِّهِ الْمَقْتُولِ هُوَ الَّذِي وَلَّى قَتْلَ قَاتِلِهِ، فَاقْتَصَّ مِنْهُ. وَأَمَّا " الْقَتْلَى " فَإِنَّهَا جَمْعُ " قَتِيلٍ " كَمَا " الصَّرْعَى " جَمْعُ " صَرِيعٍ"، وَالْجَرْحَى جَمْعُ " جَرِيحٍ ". وَإِنَّمَا يُجْمَعُ " الْفَعِيلُ " عَلَى " الْفَعْلَى"، إِذَا كَانَ صِفَةً لِلْمَوْصُوفِ بِهِ، بِمَعْنَى الزَّمَانَةِ وَالضَّرَرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ مَعَهُ صَاحِبُهُ عَلَى الْبَرَاحِ مِنْ مَوْضِعِهِ وَمَصْرَعِهِ، نَحْوُ الْقَتْلَى فِي مَعَارِكِهِمْ، وَالصَّرْعَى فِي مَوَاضِعِهِمْ، وَالْجَرْحَى، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إذًا: فُرِضَ عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى: أَنْ يُقْتَصَّ الْحُرُّ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى. ثُمَّ تُرِكَ ذِكْرُ " أَنْ يَقْتَصَّ " اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: " كُتُبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ " عَلَيْهِ.
|